Saturday, August 9, 2008

أغنية ما قبل النوم

قصة قصيرة/ أهديها إلينا
***

جَهِدتُ في أن أبقيَها هادئة، جالسةً أو واقفة، لكنّ ذلك بدا مستحيلاً دموعُها تغلِبُها باستمرار، فتُكفكفُ عبراتِها وتتابعُ الكلامَ دون كَلل، تمسكُ بكفّي حيناً ثم تطلقُها، وهي تروحُ وتَجيءُ في منزل خالٍ إلا مني ومنها:
- يجبُ أن نفعلَ شيئاً، يجبُ أن أفعل شيئاً، لا أصدق..لا أصدقُ أنَّ هذا هو كلُّ ما أستطيعُ فعلَه وكنتُ رأيتُها إثر وفاةِ أمِّها منذُ بضعِ سنواتٍ..كانت أهدأ:
- أحسُّ بقلبي يَحترق.. تعرفين معنى يحترق؟ إنهم لا يغيبون عن خيالي لحظةً أبدا، مع طعامي وشرابي، في عملي ومطبخي، أعجبُ أحياناً كيف أستطيعُ الذهابَ إلى العمل وأتحمَّلُ ثرثرةَ الزميلات
وتبكي
- أرجوك اهدئي، ما الفائدة، كلٌّ يعمل بِقدْر استطاعتِه-

وهل هذا كلُّ ما نستطيع؟ مستحيل.. يجب أن نعيشَ على الكفاف، يجب ألا نلبسَ إلا الضروريّ، يجبُ ألا نقتنيَ في بيوتنا صورةً ولا تُحفة، من أجلهم.. كلُّ شيء يجبُ أن يصبحَ لهم.
- ما أظنُّ أنه حتى كبارُ العلماءِ يشاركونك هذه الرؤية!
- لماذا، لماذا؟ أليست البوسنة أرضاً إسلامية؟ أما يتغنَّون أنها فتحها المسلمون ونشروا فيها الإسلام ويصفون مساجدَها وآثارَها وعودةَ أهليها إلى دينهم.. أليسَ يجبُ علينا تحريرُ كل شِبر من ديارِ الإسلام؟ أتعرفين كم شبراً ِمساحةُ البوسنة؟
قالت جملتهَا الأخيرة بضحكة باكية فقلت:
- هي أكبرُ من فِلَسطينَ على أيّة حال..
- تظنّين أني أتجاهلُ فلسطين؟ لا.. لكني أحسُّ الأمرَ يختلفُ.. هنا حرقٌ وتدمير.. اغتصابٌ، إبادة.. إبادةٌ للإسلام بإبادة المسلمين، وكلِّ مالهم على وجه الأرض.
وأطبقت بكفَّيها على صَدغيها، وكأنّها تخافُ على رأسها الانفجارَ:
- تخيّلي هذا يحدثُ لنا، لك، لأختك، لابنك، لأبيك.. الآلامُ والذِّلةُ والمَهانةُ والتشريدُ في كل أرض.
- أنت امرأةٌ وأمّ.. تبرّعي بالمال.. ما أظنُّك مطالبةً بأكثرَ من هذا.
- لم لا؟ ألم ترَي الشقرَ والشقراوات، إنهم يعملون هناك قريباً من النار والدماء.. يبتسمون للصغار والكبار، يمسحون على الرؤوس، يَهرعون مع الخائفين والخائفات، يوزّعون الطعام، يقدِّمون الدواء، من هؤلاء؟ كيف وصلوا؟
- أين منظماتُنا وهيئاتُنا.. ألا تحتاجُ نساءً أبداً؟ نحنُ أمهاتٌ ويجبُ أن نخفِّفَ معاناةَ الأمّهات والأبناء، ولماذا لا يُجلَبُ الأطفالُ إلى ديارنا.. بدلاً من أوروبة.
- أرجوك اهدئي، تعرفين ألا فائدةَ من هذا.
- نعم.. لايمرُّ شيءٌ ولا يصلُ إليهم شيءٌ دون إذنِ الصربِ وحُماةِ الصرب.. ياربّ.. هذا ظلم.. هذا بشع.. لا أستطيعُ احتمالَه.
وسحبتني من يدي فجأةً إلى غرفة نومِها، أخرجت ملفّاً كبيراً، نثرت محتوياتِه على سريرها وهي تتابعُ الحديثَ بصوت مُرتجِف: انظري!
كانت كلُّها صوراً رأيتها في الصحف والمجلات، بعضُها ملوّن بعضها بالأبيض والأسود، يبدو أنها صنَّفتها وِفقَ تواريخِها لتقصَّ مأساتَنا هناك، في البوسنة والهرسك.
وكان لرؤيتها هكذا مجتمعةً أثرٌ عَكسيٌّ عليّ، فهمَدتُ وصمتّ، وجمَدتِ الدمعةُ في عينيَّ وأنا أردِّدُ: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، اللهم ارحمهم.
وانتفضَت صاحبتي وكأنها وصلَ إلى حلّ كان غائباً عنها، وكانت قد جلست أخيراً على طرف سريرها جِلسةً مُتَحفِّزة، وقالت:
- نحن في حالة طوارئَ، نفيرٍ.. وفي حال النفير لا بدَّ من استثناءات.
- ماذا تعنين؟
- يجبُ أن نتعاون، ونضحّي..
- صحيح، لكن إمكانيَّة مشاركتِنا تبقى محدودة.
- أذهبُ أنا وترعَين أنت أولادي..
صرختُ بها: إلى أين؟
- إلى أقرب نقطةٍ إليهم، وكما تفعلُ الشقراواتُ أستقبلُ الجرحى واليتامى، أنا مسلمةٌ سيأنسُ إليَّ الصغارُ أكثر، ستفتحُ النساءُ قلوبَهُنَّ لي، سأخفِّفُ عنهنَّ بكل ما عرفتُ من الإسلام.
أصبح صوتُها أقربَ إلى من يكلّمُ نفسَه، وابتعدَتْ بنظراتها وكأنّها ترى من خلف جدارٍ ما آنسَها فارتسمتِ ابتسامةٌ حنونٌ على وجهِها الباكي.. قلت لها:
- أنت تحلَمين، أنت مُعتادةٌ على الشِبَع والريّ والنظافة والدفء وقدرٍ من الأمان..
- ومتى أغيّرُ هذه العادات؟ متى أضحّي من أجل ديني، من أجل الناس.. يجبُ أن أحاول، الحلم يتحوُّل إلى حقيقة بالإيمان..
أجبتُها في شيء من الغيظ مما تثيرُه من تداعيات لا أريدُ الخوضَ فيها:
- إلا في بلادنا! الأحلامُ كثيرةٌ وعظيمة وجميلة، لكنها لا تتحوّلُ إلى واقع..تذوبُ تحت لذعِ السياط وسنابكِ العسكر، تحت مطارقِ الفرقة والأنانية.
- سأصِل.. أبوابٌ كثيرةٌ يمكنُني طرقُها.
*****
مرَّ شهرٌ وشهران وثلاثة..
لم أجرؤ على السؤال عنها رغمَ فُضولي وقلقي، وكنتُ كَمنْ يؤجِّلُ مواجهةَ خيبةٍ لابدَّ منها، ولم تطرقْ هي بابَ داري، ولم تحاولْ مُحادثَتي.
مجازرُ الصربِ تستمرّ، وتزدادُ فنوناً، ويتبارى الإعلامُ في نقلها وكأنّه يقول: هذه عقوبةُ مَن تُسوّلُ له نفسُه رفعَ رايةِ الإسلام.
الأممُ المتحدةُ تعقِدُ الاجتماعاتِ وتهدِّدُ وتعتذر، بطرس( الغالي) يطلقُ التصريحاتِ ويجتهدُ في سدّ رمقِ بعضِ الجائعين.
المسلمونَ يطلقونَ البياناتِ، ويجمعونَ التبرعاتِ، وصاحبتي لا تظهرُ.
*****
طرقتُ بابَها على اضطراب، كنت في أعماقي أتمنّى ألا تردَّ، لكن عقلي يتغلّبُ ويقول: ستجدينها.
رحّبتْ بي بهدوء ووجهٍ شاحبٍ خلا من كلّ زينة، كما اختفت مجوهراتُها البسيطة، بدا مُحيّاها ساكناً أنيقاً وقد عَقصت شعرَها خلفَ رأسها.
جلست قبالتي وهي تقولُ بمرارة تُخفِّفُها ضحكةٌ قصيرة:
- لعلك ظننتِني صرتُ هناك..
- لا، لم أظنَّ.
- لماذا؟ رغم كل ثورتي وانفعالاتي ودموعي وخططي؟
- كثيراتٌ يتمنَّين ما تمنَّيت..
- تخيّلي.. لم أعد أجرؤُ على سَماع أخبارهم، تعبت، تعب الأولادُ وأبوهم معي، قلت لنفسي: افهمي، مؤامرةٌ كبرى.. ليست الأولى، ماذا نفعلُ والرجال يتفرّجون؟
- تقصدين أنّا دون الرجال فمسؤوليتُنا دونَهم؟
- ربما، لدَيهمُ الطاقةُ والسلطةُ والقدرةُ على التحرُّك والصِّلاتُ..
وأردفت ساخرة: والغَيرةُ على المسلمات!
- وكيف تخلَّيت عن حلمك بالانضمام إلى العاملات بالقرب من مناطق الحرب؟
- اكتشفتُ ألا بدَّ من الشقرة، والصِّباغُ لا يُجدي، أنا مسلمةٌ عربيةٌ سوداءُ الشعر، ينبغي أن يكونَ دمي بارداً، وقلبي مُتحجِّراً حتى يُسمَحَ لي بالعبور، وبذلك أكونُ مُحصَّنةً ضدَّ الحزنِ والصدقِ وربما الموت، ولو وصلتُ فهل أجدُ نبياً أو خليفةً أو صحابياً يبارك همَّتي كما وجدت نُسيبة وأمُّ سُليم.. هيهات..
- تبالغين كعادتك.. لنفعلْ شيئاً هنا!
- بالطبع .. أنا أفعل!
ألقت عبارتها بحماس أرسلَ فيّ شرارةَ أمل أرادَ أن يتفاعلَ معها، وإذا بها تُضيف:
- أنا أعلِفُ أولادي ليصبحوا صالحينَ للذبح في أقرب فرصةٍ يغتنمُها صِربٌ جُدُد.
- أيُّ تشاؤم!!
- وأعلّمُهم أيضاً أن ينالوا أرفعَ الشهاداتِ ليجلسوا خلفَ المكاتبِ وينالوا أعلى المرتَّبات، إن عاشوا..
- ..
- وأشرحُ لهم في درس أسبوعيّ فضائلَ الحوارِ والتفاوضِ بين المستضعفِ الأعزلِ الذي سُلبَ كلَّ حقوقِه وبين عدوِّه المدجَّجِ بالسلاح..
بدأتُ أضحكُ رغم مرارةِ السخرية، فتابعَتْ:
- بل لقد..
وضحكت، وأخفت فمَها بيدها كالخجلى، وقد تدافعتِ الدموعُ إلى عينيها الحالمتين الدافئتين، وقد ازدادتا حلكةً واتساعاً:
- بل لقد ألَّفتُ لهم أغنيةً ولحنتُها لِنغنّيَها معاً قبل النوم، سرقتُ من لحن جدتي ومن أغنيةِ فيروزَ للصغيرة( ريما)، أتذكرين كم سوّغنا لأنفسنا سماعَ أغانيها.. الراقية!
هززتُ برأسي أوافقُها، غَمرتني نشوةٌ وشجَن وما يشبهُ الخدَرَ في حواسّي، وهي بصدقها القاسي، بعاطفتها القادرة على الانتشار والنفاذِ والتأثير، تعيدُني ما يقاربُ عشرين عاماً إلى الوراء..
لن تصدّقوا.
انسابَ في أذنيّ صوتٌ حزين، متأثر بفيروزَ وبلحنها، كدتُ أردّدُ مع صديقتي لولا جِدّةُ الكلمات:
يا حمام نحن ننام
ابني ينام بنتي تنام
هيا نغنّي للسلام
هدموا داري.. يا سلام
ذبحُوا ولدي..يا سلام
حرقوا أرضي..يا سلام
وأنا أغنّي للسلام
يا حمام نحن ننام
غنّ معنا للسلام
***
الرياض/ 1993
____________
استمرت الحرب بين الصرب والكروات والمسلمين في البوسنة والهرسك ثلاث سنوات( لعلها: 92- 95)، حتى تدخل حلف الناتوبضغط من أمريكا في عهد كلينتون وحسمها لصالح تقسيم البلاد، بعد ويلات ومجازر مرعبة، عانى منها المسلمون بصورة رئيسة. ولا زالت المقابر الجماعية تكتشف في البلاد حتى اليوم/ بطرس غالي كان الأمين العام للأمم المتحدة في تلك الفترة، واتهم بالتواني عن العمل لصالح المسلمين.

No comments: