Sunday, August 31, 2008

رمضان مبارك

كلَّ عام وأنتم بخير

إنها التهنئة التقليدية..
قد لا تكون أمتنا أفضل حالاً من العام الماضي، لكن المؤمن يقيس الخير والسعادة بميزان الإيمان.. فإذا كان محتفظاً بعقله ودينه، فهو بخير، وإذا كان بعد ذلك بصحة طيبة، فهو بخير أكبر، وإذا كان لا يزال في البلد نفسه فلعله بخير
وإذا كان أبناؤه يجدون مدرسة وجامعة فهو بخير..
وإذا كان متيقظاً للفتن المتوالدة كسرطان خبيث، وللدعوات الهدامة التي تتزين له في كل طريق، وكل منفذ
على العالم.. فهو إن شاء الله بخير
وإذا كان يحب الجهاد والمجاهدين ويدعو لهم بالنصر والثبات والمدد

وسداد الرأي، واجتماع الكلمة

فهو بألف خير إن شاء الله
***
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك
اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم العرض عليك
ولا حول ولا قوة إلا بالله
****
أخيراً: أنا مدينة ولو لقارئ واحد أو قارئة واحدة، بمتابعة عرض

كتاب( المحاضرة الأخيرة)وسيكون ذلك، بإذن الله ، بعد رمضان
***

Tuesday, August 26, 2008

وحزن آخر

مهداة إلى أخي

**

من صحبتي الطويلة للحزن
ظننت أنا تعارفنا وتآلفنا
وخمنت أنه ليس ثمة ما يضيفه بعد..
كلَّ الشباب الجميل عرفته
في وجوه تحبني أكثر من نفسها
وفي عيون صافية دهشة
أحبها أكثر من نفسي
وفي مرآة لا تحابي
***
من صحبتي الطويلة المريرة الصافية للحزن
سقطت بين براثن حبه
لم أكتم عنه سراً ولا دمعة ولا فرحة عابرة
وظننت أن به ما بي
وأنه لن يخفي عني أسرارا ولا أخبارا
***
كان صلحاً صامتاً
جعل جناحيّ أقوى
فانحنيت على يماماتي الطيبة ألملم أحزانها الصغيرة
ثم أدفعها برفق للمغادرة
طارت دونما تعثر
وقد اطمأنت إلى صلحنا الجميل
***
أن تقرأ حيرة الفقد
وأسئلة الدهشة في عيون العصافير اللطيفة
أن تظن أحياناً أن جناحين لايكفيان
أن تبكي أحياناً لأن الوجع ليس ذكرى مرت
بل حقيقة تلابسك وتلامسك
تمشي معك وتنام معك
ومعك تأكل وتشرب وتصوم وتقوم
وتطل على أفراح العيد بعيني حسود
***
ليس ثمة ذكرى أليمة يذوبها الزمن
في تقلباته الكاوية
ثمة نصل سكين مغروسة في الفؤاد
لا نزعها ممكن
ولا ألم بقائها يسكن
***
أن تقتات الحزن وتؤاكله وتشاربه وتسايره
ليس إلا شأن أوطان مسورة بثلاث أسورة من اللهب
ينفثها التنين الذي تدحرج من صفحات الأساطير
ووقع في أحضاننا

Sunday, August 10, 2008

المحاضرة الأخيرة




أحببت أن أقدم بعض أفكار هذا الكتاب، الذي صدر بالإنجليزية هذا العام، كتبه( راندي باوش) رجل ينتظر الموت، بعد تشخيص السرطان لديه في غدة البنكرياس، عرفه الملايين وبخاصة على اليو تيوب، في محاضرته
الأخيرة، التي ألقاها على طلبته في جامعة( كارنيجي ميلون) في الولايات المتحدة، حيث كان أستاذاً مميزاً في علوم الحاسب.لقد اختار الرجل أن يتحدث عن الحياة لا الموت.. كما يقول
لن أترجم حرفياً بالطبع، فمكتبة جرير ستقوم بذلك سريعاً غير معنية بجودة الترجمة، لكن سأحاول نقل زبدة بعض الفصول باختصار

أسد جريح لازال يريد أن يزأر

1- يتحدث في هذا الفصل عن المرض والأخبار التي تنذره بالموت، ثم عن رغبته الشديدة في إلقاء المحاضرة الأخيرة، وهي في الأصل من تقاليد الجامعة التي تُطلب من كل أستاذ، حدث أنها كانت بالنسبة إليه الأخيرة فعلاً، لا افتراضاً، يقول: تولد لدي شعور بأن هناك المزيد مني لأقدمه، فلو أعطيته كلي؛ لربما استطعت تقديم شيء مميز للناس. " الحكمة" كلمة قوية، لكن لعلها ما أعنيه هنا

2- زوجته كانت تعارض حفاظاً على الوقت القليل المتبقي من حياته، لذلك حرص على مواجهة دوافعه لإلقاء المحاضرة بنزاهة، واعترف أن الأمر يتعلق بالكرامة وتقدير الذات، كما صار يرى المحاضرة أشبه بآلة تعبر به الزمن إلى المستقبل الذي لن يراه، فأبناؤه صغار جداً، وهذه المحاضرة ستعرفهم( من هو بابا) عندما يكبرون


3- ثم يتساءل: كيف يستطيع تحويل الكلام النظري إلى شيء يرافق صغاره في طريق حياتهم لعقد أو أكثر من الزمن، هذا الشيء يجب ألا يتحدث عن ظروف المرض ومقاومة الموت..يجب أن يكون عن الحياة


4- ما الذي يجعلني مميزاً: لقد ساعده هذا السؤال على تحديد ما يريد قوله في محاضرته الأخيرة، وتوصل إلى أنه ليس دور الزوج ولا الأب ولا الأستاذ ولا السرطان هو ما يميزه عن غيره من الناس، وتوصل إلى سؤال فاصل: ما الذي علي أنا، وحدي، أن أقدم


5- وكان الجواب، الذي اعتبره حاسماً ونهائياً، وأترجمه كله هنا: مهما تكن إنجازاتي، فإن كل الأشياء التي أحببتها متجذرة فيما كان لدي من أحلام وأهداف في طفولتي، ثم في الطرق التي تدبرتها لتحقيق معظمها، تقريباً


6- لم استطاع تحقيق أحلامه، يقول: لقد عشت( حققت) أحلامي، والسبب يعود إلى حد كبير إلى ما تعلمته على أيدي ناس متميزين، طوال حياتي. وما دمت قادراً على رواية قصتي بهذا الحماس، فقد تساعد محاضرتي الآخرين على تحقيق أحلامهم


7- وهكذا أرسل البروفيسور( راندي باوش) إلى االكلية التي تنتظر عنوان محاضرته من مدة، يقول:
سأتحدث عن: تحقيق أحلام الطفولة

حياة على المحمول
في هذا الفصل يحدثنا عن إعداده لمحاضرته على حاسوبه المحمول، وقد بدأ بسؤال: كيف تنمذج( إن صحت الترجمة) أحلام طفولتك؟ وكيف تمكن غيرك من إعادة التواصل مع أحلامهم، استخدم كثيراً من الصور العائلية والدراسية، وأقنع زوجته بحضور المحاضرة، لأنه كان بحاجة ماسة إلى وجودها قربه وهو يتحدث إلى هذاالعدد الكبير من الناس

فيل في الغرفة
في هذا الفصل يبين أهمية التعريف والتعارف، مستشهداً بأن أباه علمه دائماً( إذا كان في الغرفة فيل، فقدمه للآخرين) ومن هنا وجد أنه لا بد من الحديث عن تاريخ مرضه وطبيعته، لأولئك الذين لا يعرفونه، كما بين أنه بصحة جيدة( الآن)* رغم ما يعانيه، وأكد ذلك بالهبوط إلى الأرض ليقوم، أمام جمهوره، بتمرينات الضغط
*
ثم يبدأ القسم الثاني من الكتاب تحت عنوان( تحقيق أحلام طفولتك) ولعله تفصيل للمحاضرة، وقد أقدم أفكاره الرئيسة لاحقاً.. إن شاء الله

***
أعتقد أن هذا الكتاب يدعو المسلم إلى استحضار ما يعرفه عن دينه الحنيف، أو البحث عما لا يعرفه، لأنه موقن في قرارة نفسه، أن الإسلام دين للحياة ولكل زمان ولكل البشر، ولعله سيؤلمنا أنا وحدنا- نحن المسلمين- نعرف ما كان يفتقر إليه رجل عاقل ناجح مثل (راندي باوش) في رؤيته لحياته وموته
__________________________
* توفي الرجل الشهر الماضي، ولو خطر ببالكم: ليته عرف الإسلام، فقرروا أن تستجيبوا في مرة قادمة للأفكار الخيرة فوراً( مثل إرسال كتاب/ تعريف عام بدين الإسلام/ بالإنجليزية) لا تؤجلوا أبداً.. ثمة عالم بأسره يحتاج إلى الإسلام، ويبحث عنه، ونحن لا نثمن هذا بما يستحق من اهتمام وحركة

من أجل العربية2


مثال آخر
تظهر لك على شاشة الحاسب رسالةٌ تخبرُك بأن الاتصال تم
بالإنترنت( نحت أحدهم كلمة الشنكبوتية/ من كلمتي الشبكة العنكبوتية) فتقرأ
إنَّ
Local Area Connection
هو الآن متصلٌ
الضمير( هو) الذي يكون أحياناً ضميرَ فصل لا محلَّ له من الإعراب، يبدو هنا زائداً: فلو قلت: إنّ( ال آي سي ) متصل الآن( بتأخير ظرف الزمان الآن) لكان أفصحَ.
إن من العبارات الشائعة بين اللغويين قولهُم: البلاغة في الإيجاز، والبلاغة تعني أن( تبلغني) تصل بي، إلى هدفك أو هدفي بأقلِّ عدد من الكلمات.
ولو أردنا ترجمة العبارة التي تركت إنجليزية ثم دمجنا الجميع معاً لأمكن الاكتفاء بعبارة: تم الاتصال المحلي، ولا حاجة لحرف
التوكيد( إن) هنا لأن مستخدمَ الحاسب أصلاً لديه أدلةٌ أقوى :) على أن الاتصال بالشبكة قد تم
وإلى مثال آخر

شيء مما كان

أنثر كلماتي.. وأغبط الشاعر
***

في ذلك الزمانِ الموغل في البعد

كأنه ذاكرةٌ خضراءُ يحرسُ نضارتهَا الحنين

ويغذّي جداولهَا دمعُ كل يوم

كان الغرباءُ قِلّة ومسالمين، يبدون

نأكل من أيديهم ومن أيدينا يأكلون

يلعبُ الأطفال معا

ويتنازعون القصصَ الملونة

بعيدا عن غضب المعلمة

***
في ذلك الزمان كان الفجرُ حنونا

يوقظنا على حبّه سبعونَ أذانا

وكانت الصباحاتُ نديّةً ومُسالمة

تحملُنا إلى مدارسنا وجامعاتنا وأعمالنا

على الصوت المخمليّ
والكلماتٍ الحييّة

وكانت دروبُ الينابيع والبساتين

والآفاقُ المشرقة

تتّسع لنا جميعا

النسائمُ لنا جميعا

والشمسُ لنا جميعا

وأنوارُ الفضة نلتقطُها معاً بأكفّنا الغضة

من دارة القمر

***
في ذلك الزمان الموغلِ في القِدم

حتى لَنتساءلَ : أكان أم لا ؟

كانت حلَقاتُ السمرٍ طويلة

تحت نداوةِ العرائش ووحشيةِ اللبلابِ المدلّل

وكانت موسيقى البيادرِ والحقول

وحدَها تستدعي النوم

* * *

ولأنّ النومَ كان لذيذا

تحت النوافذِ المشرعةِ على الليالي الهانئة

ماكان سهلاً أن نعلم

أنّ حارسَنا - دون إذنٍ منا - تبدّل

وأن الليالي تخون عاشقي الأوطان

مع الحارس الجديد

ثم تدورُ على أبوابهم لتضعَ علامة الموت

التي لايراها ولا يفهمُها

إلا خفافيشُ موصوفٌ لها دمُنا
***

ومهما بدّلنا من أبوابنا بعد

ومهما غلّقنا نوافذنا

ومهما تجنّبنا من دروب ومَراقٍ

كانت حواسُّ الخفافيشِ لا تخطئ

حتى زادت دماؤنا عن حاجتها

فدعت الجرذانَ والعقارب َإلى الوليمة المتجددة

لتنبعَ من كلّ مكان

وتدبَّ نحوَ العيون
****

وكلما ظننّا سحابةَ أملٍ أظلّتنا

وجدناها سربَ جرادٍ جديدا مدعواً إلى الوليمة
فلوريدا/ 2000

الحفيدة الأولى

كتبت لها قبل عام، وهي اليوم في السابعة

نُـعــمــى

نـونٌ عـينٌ مـيـمٌ ألـفُ
حَولَ الحلوةِ مَن يختلفُ؟
نونٌ ننسى معها الهمّــا
فرحاً بقدومٍ مَن يَصِفُ؟
عَينٌ من ربّي تَحرسُهـا
نخشى من حسدٍ، نعترفُ
ميمٌ ماسَت عمٌراً طفلاً
عَـينانِ حَديثٌ يُرتَشـفُ
ألفٌ تسعى نحوَالأعـلى
بـالأجـمَل خُلْقاً تأتَـلـِفُ
نُعـمى يا بُرعُمَ إيـمـانٍ
ينـمـو بالودّ ويـَغتـرِفُ
جدتك المحبة/ فاطمة

Saturday, August 9, 2008

من أجل العربية1


يبدو أن التسارع التكنولوجي أصبح أكبر كثيراً من قدرتنا- معاشرَ العرب- على تلبية احتياجاته اللغوية
وليس ثمة جهةٌ معنية جدّياً بما يحدثُ لهذه اللغة من تحريف وتشويه، بسبب الترجمات الآنية السريعة التي تريد مواكبة العصر بلغتنا
ربما ينبغي أن نشكرَهم أولئك الذين يجتهدون في ترجمة بعض المعطيات- التي لست من يستطيع تصنيفها- فهم يحاولون جهدَهم تقريبَنا من العصر وتقريبنا منه، وليس هنالك من يقول لهم: قف لا تنشر! ثمة هيئةٌ أو لجنة معنيةّ بمراجعة ترجمتِك، لتصححَها وتضبِطها وتقدمَها في أصحّ وأجمل( أشدّد على أجمل) حلّة قبل نشرها للجمهور..
نعم يبدو هذا مضحكاً لقطاع كبير من الشباب، وبخاصة بعد أن أتحفتنا قناة العربية ببرنامجها الساخرالعشوائي النزعة( عربيزي).. ولكي أكون أكثر وضوحا أضرب مثالاً
عندما تطلب رقماً على هاتفك الجوال- في مدينة الرياض- تظهر على شاشته عبارة: (جارٍ الاتصال/ ويجب قراءتها: جارِنْلـِتِّصالُ)
من القواعد البسيطة في لغتنا أن الابتداءَ بنكرة لا يجوزُ إلا لضرورة وبشروط محددة، وفي ألفيّة ابن مالك في النحو( وهي أرجوزة من ألف بيت منظوم في قواعد النحو: لمن لم يسمع بها
ولا يجوزُ الابتدا بالنكرة= مالم تُفِد كعند زيدٍ نَمِرة
في حالتنا هنا( الاتصالُ جارٍ) هي العبارةُ الأصوبُ والأبعد عن التكلف، وهي الأكثر سلاسةً، لأن الانتقال من الضم على آخر( الاتصالُ) إلى الفتح( على جيم جَار) أيسر على اللسان من الانتقال من التنوين( على آخر جارٍ) إلى الكسر على همزة الوصل في كلمة( الاتصال)
شكراً لكم
وإلى مثال آخر..
______________
* النمرة: ثوب

أغنية ما قبل النوم

قصة قصيرة/ أهديها إلينا
***

جَهِدتُ في أن أبقيَها هادئة، جالسةً أو واقفة، لكنّ ذلك بدا مستحيلاً دموعُها تغلِبُها باستمرار، فتُكفكفُ عبراتِها وتتابعُ الكلامَ دون كَلل، تمسكُ بكفّي حيناً ثم تطلقُها، وهي تروحُ وتَجيءُ في منزل خالٍ إلا مني ومنها:
- يجبُ أن نفعلَ شيئاً، يجبُ أن أفعل شيئاً، لا أصدق..لا أصدقُ أنَّ هذا هو كلُّ ما أستطيعُ فعلَه وكنتُ رأيتُها إثر وفاةِ أمِّها منذُ بضعِ سنواتٍ..كانت أهدأ:
- أحسُّ بقلبي يَحترق.. تعرفين معنى يحترق؟ إنهم لا يغيبون عن خيالي لحظةً أبدا، مع طعامي وشرابي، في عملي ومطبخي، أعجبُ أحياناً كيف أستطيعُ الذهابَ إلى العمل وأتحمَّلُ ثرثرةَ الزميلات
وتبكي
- أرجوك اهدئي، ما الفائدة، كلٌّ يعمل بِقدْر استطاعتِه-

وهل هذا كلُّ ما نستطيع؟ مستحيل.. يجب أن نعيشَ على الكفاف، يجب ألا نلبسَ إلا الضروريّ، يجبُ ألا نقتنيَ في بيوتنا صورةً ولا تُحفة، من أجلهم.. كلُّ شيء يجبُ أن يصبحَ لهم.
- ما أظنُّ أنه حتى كبارُ العلماءِ يشاركونك هذه الرؤية!
- لماذا، لماذا؟ أليست البوسنة أرضاً إسلامية؟ أما يتغنَّون أنها فتحها المسلمون ونشروا فيها الإسلام ويصفون مساجدَها وآثارَها وعودةَ أهليها إلى دينهم.. أليسَ يجبُ علينا تحريرُ كل شِبر من ديارِ الإسلام؟ أتعرفين كم شبراً ِمساحةُ البوسنة؟
قالت جملتهَا الأخيرة بضحكة باكية فقلت:
- هي أكبرُ من فِلَسطينَ على أيّة حال..
- تظنّين أني أتجاهلُ فلسطين؟ لا.. لكني أحسُّ الأمرَ يختلفُ.. هنا حرقٌ وتدمير.. اغتصابٌ، إبادة.. إبادةٌ للإسلام بإبادة المسلمين، وكلِّ مالهم على وجه الأرض.
وأطبقت بكفَّيها على صَدغيها، وكأنّها تخافُ على رأسها الانفجارَ:
- تخيّلي هذا يحدثُ لنا، لك، لأختك، لابنك، لأبيك.. الآلامُ والذِّلةُ والمَهانةُ والتشريدُ في كل أرض.
- أنت امرأةٌ وأمّ.. تبرّعي بالمال.. ما أظنُّك مطالبةً بأكثرَ من هذا.
- لم لا؟ ألم ترَي الشقرَ والشقراوات، إنهم يعملون هناك قريباً من النار والدماء.. يبتسمون للصغار والكبار، يمسحون على الرؤوس، يَهرعون مع الخائفين والخائفات، يوزّعون الطعام، يقدِّمون الدواء، من هؤلاء؟ كيف وصلوا؟
- أين منظماتُنا وهيئاتُنا.. ألا تحتاجُ نساءً أبداً؟ نحنُ أمهاتٌ ويجبُ أن نخفِّفَ معاناةَ الأمّهات والأبناء، ولماذا لا يُجلَبُ الأطفالُ إلى ديارنا.. بدلاً من أوروبة.
- أرجوك اهدئي، تعرفين ألا فائدةَ من هذا.
- نعم.. لايمرُّ شيءٌ ولا يصلُ إليهم شيءٌ دون إذنِ الصربِ وحُماةِ الصرب.. ياربّ.. هذا ظلم.. هذا بشع.. لا أستطيعُ احتمالَه.
وسحبتني من يدي فجأةً إلى غرفة نومِها، أخرجت ملفّاً كبيراً، نثرت محتوياتِه على سريرها وهي تتابعُ الحديثَ بصوت مُرتجِف: انظري!
كانت كلُّها صوراً رأيتها في الصحف والمجلات، بعضُها ملوّن بعضها بالأبيض والأسود، يبدو أنها صنَّفتها وِفقَ تواريخِها لتقصَّ مأساتَنا هناك، في البوسنة والهرسك.
وكان لرؤيتها هكذا مجتمعةً أثرٌ عَكسيٌّ عليّ، فهمَدتُ وصمتّ، وجمَدتِ الدمعةُ في عينيَّ وأنا أردِّدُ: لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، اللهم ارحمهم.
وانتفضَت صاحبتي وكأنها وصلَ إلى حلّ كان غائباً عنها، وكانت قد جلست أخيراً على طرف سريرها جِلسةً مُتَحفِّزة، وقالت:
- نحن في حالة طوارئَ، نفيرٍ.. وفي حال النفير لا بدَّ من استثناءات.
- ماذا تعنين؟
- يجبُ أن نتعاون، ونضحّي..
- صحيح، لكن إمكانيَّة مشاركتِنا تبقى محدودة.
- أذهبُ أنا وترعَين أنت أولادي..
صرختُ بها: إلى أين؟
- إلى أقرب نقطةٍ إليهم، وكما تفعلُ الشقراواتُ أستقبلُ الجرحى واليتامى، أنا مسلمةٌ سيأنسُ إليَّ الصغارُ أكثر، ستفتحُ النساءُ قلوبَهُنَّ لي، سأخفِّفُ عنهنَّ بكل ما عرفتُ من الإسلام.
أصبح صوتُها أقربَ إلى من يكلّمُ نفسَه، وابتعدَتْ بنظراتها وكأنّها ترى من خلف جدارٍ ما آنسَها فارتسمتِ ابتسامةٌ حنونٌ على وجهِها الباكي.. قلت لها:
- أنت تحلَمين، أنت مُعتادةٌ على الشِبَع والريّ والنظافة والدفء وقدرٍ من الأمان..
- ومتى أغيّرُ هذه العادات؟ متى أضحّي من أجل ديني، من أجل الناس.. يجبُ أن أحاول، الحلم يتحوُّل إلى حقيقة بالإيمان..
أجبتُها في شيء من الغيظ مما تثيرُه من تداعيات لا أريدُ الخوضَ فيها:
- إلا في بلادنا! الأحلامُ كثيرةٌ وعظيمة وجميلة، لكنها لا تتحوّلُ إلى واقع..تذوبُ تحت لذعِ السياط وسنابكِ العسكر، تحت مطارقِ الفرقة والأنانية.
- سأصِل.. أبوابٌ كثيرةٌ يمكنُني طرقُها.
*****
مرَّ شهرٌ وشهران وثلاثة..
لم أجرؤ على السؤال عنها رغمَ فُضولي وقلقي، وكنتُ كَمنْ يؤجِّلُ مواجهةَ خيبةٍ لابدَّ منها، ولم تطرقْ هي بابَ داري، ولم تحاولْ مُحادثَتي.
مجازرُ الصربِ تستمرّ، وتزدادُ فنوناً، ويتبارى الإعلامُ في نقلها وكأنّه يقول: هذه عقوبةُ مَن تُسوّلُ له نفسُه رفعَ رايةِ الإسلام.
الأممُ المتحدةُ تعقِدُ الاجتماعاتِ وتهدِّدُ وتعتذر، بطرس( الغالي) يطلقُ التصريحاتِ ويجتهدُ في سدّ رمقِ بعضِ الجائعين.
المسلمونَ يطلقونَ البياناتِ، ويجمعونَ التبرعاتِ، وصاحبتي لا تظهرُ.
*****
طرقتُ بابَها على اضطراب، كنت في أعماقي أتمنّى ألا تردَّ، لكن عقلي يتغلّبُ ويقول: ستجدينها.
رحّبتْ بي بهدوء ووجهٍ شاحبٍ خلا من كلّ زينة، كما اختفت مجوهراتُها البسيطة، بدا مُحيّاها ساكناً أنيقاً وقد عَقصت شعرَها خلفَ رأسها.
جلست قبالتي وهي تقولُ بمرارة تُخفِّفُها ضحكةٌ قصيرة:
- لعلك ظننتِني صرتُ هناك..
- لا، لم أظنَّ.
- لماذا؟ رغم كل ثورتي وانفعالاتي ودموعي وخططي؟
- كثيراتٌ يتمنَّين ما تمنَّيت..
- تخيّلي.. لم أعد أجرؤُ على سَماع أخبارهم، تعبت، تعب الأولادُ وأبوهم معي، قلت لنفسي: افهمي، مؤامرةٌ كبرى.. ليست الأولى، ماذا نفعلُ والرجال يتفرّجون؟
- تقصدين أنّا دون الرجال فمسؤوليتُنا دونَهم؟
- ربما، لدَيهمُ الطاقةُ والسلطةُ والقدرةُ على التحرُّك والصِّلاتُ..
وأردفت ساخرة: والغَيرةُ على المسلمات!
- وكيف تخلَّيت عن حلمك بالانضمام إلى العاملات بالقرب من مناطق الحرب؟
- اكتشفتُ ألا بدَّ من الشقرة، والصِّباغُ لا يُجدي، أنا مسلمةٌ عربيةٌ سوداءُ الشعر، ينبغي أن يكونَ دمي بارداً، وقلبي مُتحجِّراً حتى يُسمَحَ لي بالعبور، وبذلك أكونُ مُحصَّنةً ضدَّ الحزنِ والصدقِ وربما الموت، ولو وصلتُ فهل أجدُ نبياً أو خليفةً أو صحابياً يبارك همَّتي كما وجدت نُسيبة وأمُّ سُليم.. هيهات..
- تبالغين كعادتك.. لنفعلْ شيئاً هنا!
- بالطبع .. أنا أفعل!
ألقت عبارتها بحماس أرسلَ فيّ شرارةَ أمل أرادَ أن يتفاعلَ معها، وإذا بها تُضيف:
- أنا أعلِفُ أولادي ليصبحوا صالحينَ للذبح في أقرب فرصةٍ يغتنمُها صِربٌ جُدُد.
- أيُّ تشاؤم!!
- وأعلّمُهم أيضاً أن ينالوا أرفعَ الشهاداتِ ليجلسوا خلفَ المكاتبِ وينالوا أعلى المرتَّبات، إن عاشوا..
- ..
- وأشرحُ لهم في درس أسبوعيّ فضائلَ الحوارِ والتفاوضِ بين المستضعفِ الأعزلِ الذي سُلبَ كلَّ حقوقِه وبين عدوِّه المدجَّجِ بالسلاح..
بدأتُ أضحكُ رغم مرارةِ السخرية، فتابعَتْ:
- بل لقد..
وضحكت، وأخفت فمَها بيدها كالخجلى، وقد تدافعتِ الدموعُ إلى عينيها الحالمتين الدافئتين، وقد ازدادتا حلكةً واتساعاً:
- بل لقد ألَّفتُ لهم أغنيةً ولحنتُها لِنغنّيَها معاً قبل النوم، سرقتُ من لحن جدتي ومن أغنيةِ فيروزَ للصغيرة( ريما)، أتذكرين كم سوّغنا لأنفسنا سماعَ أغانيها.. الراقية!
هززتُ برأسي أوافقُها، غَمرتني نشوةٌ وشجَن وما يشبهُ الخدَرَ في حواسّي، وهي بصدقها القاسي، بعاطفتها القادرة على الانتشار والنفاذِ والتأثير، تعيدُني ما يقاربُ عشرين عاماً إلى الوراء..
لن تصدّقوا.
انسابَ في أذنيّ صوتٌ حزين، متأثر بفيروزَ وبلحنها، كدتُ أردّدُ مع صديقتي لولا جِدّةُ الكلمات:
يا حمام نحن ننام
ابني ينام بنتي تنام
هيا نغنّي للسلام
هدموا داري.. يا سلام
ذبحُوا ولدي..يا سلام
حرقوا أرضي..يا سلام
وأنا أغنّي للسلام
يا حمام نحن ننام
غنّ معنا للسلام
***
الرياض/ 1993
____________
استمرت الحرب بين الصرب والكروات والمسلمين في البوسنة والهرسك ثلاث سنوات( لعلها: 92- 95)، حتى تدخل حلف الناتوبضغط من أمريكا في عهد كلينتون وحسمها لصالح تقسيم البلاد، بعد ويلات ومجازر مرعبة، عانى منها المسلمون بصورة رئيسة. ولا زالت المقابر الجماعية تكتشف في البلاد حتى اليوم/ بطرس غالي كان الأمين العام للأمم المتحدة في تلك الفترة، واتهم بالتواني عن العمل لصالح المسلمين.