Saturday, June 25, 2011

لا غربة بعد

غمره التعب إلى حدّ الحزن، رأى أنه لن يرفعَ بعدُ يداً ولن يحرّكَ جفناً، استسلم تماماً كما تمنّى منذ زمن، وتنفّس رائحة الخلاص الموجعةَ التي لن يصفَها لأحد، إنه اكتشاف خاصّ جليل، لا يليقُ به سوى الصمت. 
أحسّ بكفّها على جبهته جافّةً وحنوناً..تمنّى أن يرفع كفّه ليضعَها فوق تلك الكفّ، تمنىّ أن يقول لها: كانت لك يدان طريّتان.. من زمان..زمان، قبلَ زمانِ الخيام.
لم يستطعْ..لايريد، عزيمةُ الاستسلام أضحت أقوى؟ كيف؟
يسمع أنينها لا تُعوِل ولا تصرخ، تئنّ كما فعلت يوم هدموا البيت: يومَ دخلت بين غبارِ الحجارة وغبار البارود لتخلّصَ مِزقة من هديته: منديلٍ أحبّ أن يراه يحتضن شيئاً من شعرها الأثيث..
إنه، مغمضَ العينين، يرى كيف ترسم الدمعة الصامتة خطوط وجهها، يرى كيف تُخفي بكفّها ارتجافة شفتيها، كيف تذهب عيناها بعيداً نحو الأفق الذي لا تجد فيه جديداً ينعش منذ ربع قرن، يرى كيف تشمَخ ولا تدعُ أحداً يرثي لها.
إنه، مُشرعَ الأذنين، يسمع حائراً إلحاحها الهامس: قل لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إنه يقولها، يردّد مفرداتِها بهناءة منذ أدار ظهره للدنيا واختار الصمت.
تريده أن يحرّكَ لسانه بتلك الكلماتِ الشجية الهنيئة التي تصعد وتهبط مع أنفاسه، تدغدغها النبضة بعنفوانها المحبَّب إلى رئته، لترسلَها الرئة بكل أمانة إلى الشرايين، فتنطلق مع دمه الوفيّ وتتغلغل بين الخلايا لترسمَ حوافَّها برقة غامرة، فيحسّ أنه يغتسل ويتطهّر.. يتعطّر لينفلتَ خفيفاً بلاجسد، وتعود الكلمات الخالدات مع الدم الوفيّ لتتدفّقَ مع الأوردة إلى القلب من جديد ، فينبض بها من جديد، ويدفعها محبوراً مبهوراً إلى الشرايين  لترسمَ حدود كل خليّة، وتسمع منها البوح بالحبّ المتجدد .
إنه يردّدها، وهي لا تريد أن تسمع، اليومَ لا تريد أن تسمع! وهي التي اعتادت أن تسمعَ كلماتِ قلبه، وترى كلماتِ عينيه من قبل الكلام.
يسمع الآن نداءها الحازم: يا أولاد !
ثمة همهماتٌ وحوارات..هو ذا كبيرُهم.. مأواه أقربُ وقد أحضر ولديه.. وما أحبَّ وقع قدميهما.
هل سيبكون فرحٌ أم حزن حين يتحقّقون أنه وجد أخيراً أمتاراً يستقرّ فيها لا يزحزحه منها شيء إلا نفخةُ الصور: لا الصواريخُ ولا القرارات ولا المؤتمرات ولا الخوف المخيِّم على الأنفاس واللقيمات؟
 سيسامحونه، سيقولون، وسيسمعهم: " كم اشتهى أن يكونَ له بيت، وأن يكونَ البيت في الوطن، كم رفض البيت دون وطن، قال: البيوت البعيدة تنسيكم الأوطان الحزينة"
*  *  *
وإذا كنتَ منهكاً إلى حدّ الحزن، غريباً إلى حدّ الموت، فهل يحتاج فعل البكاء جهداً كثيراً؟
تحدّرت دمَعات على الصدغين الجافين، تعرّجت في خطوط مألوفة، حرّرت بملوحتها الدافئة اللذيذة نفثةَ سعادة شجية ومنعشة من صدره المهاجر طولَ العمر، واكتشف راضياً هناءة النهاية في معركة استمرّت، إلى درجة أن نتائجها لم تعد تهمّ أحداً .

الرياض 1996/ ظهرت في مجموعتي القصصية "بلاغ ضد المواطنة الرقيقة" الصادرة عن دار العبيكان 2006

Thursday, June 23, 2011

بعض ما لم أقله للمحقق الشاب/ 1

توطئة: فوجئت أواخر كانون الأول ديسمبر1999 في مطار دمشق بأن علي مراجعة الفرع 235..واستمر هذا إلى منتصف 2002 في كل زيارة زرتها لدمشق.. حتى انقطعت.
*****
   لعل وجودَه خلف المكتب، ووجودي على كرسيّ ليس تُجاهَه تماماً، لِنقلْ أني كنت أقربَ إلى يمينه.. وقد تكون هذه الزاوية من الرؤية مريحة له كما هي لأغلب الناس. لعل هذا منحَه شعوراً بالسيطرة والتحكم، إضافة إلى ما تمنحه إياه طبيعةُ العلاقة بيننا: مواطنة مطلوب منها مراجعة الفرع خلال يومين من وصولها إلى بلدها، ومحقق في فرع أطلق عليه اسم فرع الإرهاب بعد إطلاق موضة محاربة الإرهاب من قبل جورج بوش، بل لعل الأمر بدأ من أيام بل كلينتون الذي يعتبر من أو أذكى رؤساء أمريكا، من عجب أو أسف( وعلام الأسف) أنه احتاج هذا الذكاء أكثر ما احتاجه في دفع تهمة الكذب عن نفسه تحت القسم، ربما يجب أن أذكر أنه لم يكن، في المرحلة الثانية من التحقيق( مع رئيس أقوى دولة في العالم) يدفع عن نفسه تهمة الزنى في البيت الأبيض، بل يدفع عن نفسه تهمة الكذب، وقد احترم المؤمنون والمتمسكون بالأخلاق من كل الدنيا، دون شك، كثيراً؛ أن الدستور الأمريكي يجعل الكذب جريمة أكبر من الزنى، تماماً كما هي الحال لدينا معاشر المسلمين، فقد يزني المؤمن وقد يسرق لكنه لا يكذب، كما صحَّ في الحديث الشريف.
أقول إنه المحقق في الفرع235، المجاور تماماً لفرع الجمارك، والأوادم( جمع آدميّ/ طيب عاقل) الجهلة أمثالي، كانوا منذ ربع قرن يرضون من أسماء الفروع المرعبة( أعني الفروع) بعناوينها التي تنبع من مواقع يعرفونها فتبعد عنهم، ولو إلى زمن، الإيحاء المفزع لمصطلح المخابرات: فرع التحقيق العسكري سموه فرع الجمارك لأنه قريب من إدارة الجمارك في أول حيّ المزة الذي كان شهيراً يوماً بحقول الصبار والمياه الغزيرة قبل أن تغزوه الأبنية الأشبه بالعلب والتي تصلح لتكديس عدد كبير من البشر لحوماً وعظاماً.
 فرع الخطيب، في جادة الخطيب المتفرعة عن شارع بغداد، شارع بغداد شقته فرنسا لتتجنب شارع الملك فيصل الذي كان يقطعه المتظاهرون والثوار بالمتاريس.
   لكن الناس(أتحدث هنا عن ناس ليست لهم علاقة بعد بفروع التحقيق، لا يهمهم أبداً أن يعرفوا كم فرعاً للتحقيق في دمشق العاصمة وحدها، وما اختصاص كل فرع، ومن يرأسه أو يديره..لاحظ أن كل الأسئلة تتجنب( كيف).  
فرع العدوي في حيّ العدوي الذي كان يوماً جديداً، والذي شب فجأة ساحقاً تحت إسمنته وحديده وعبث أطفاله الغاضبين مساحة  خضراء تسمى الديوانية. من الغريب، ولعله ليس غريباً، من المؤسف ولعله ليس مؤسفاً، من المحزن ولعله ليس محزناً أنه لايبعد عن فرع الخطيب أكثر من عشر دقائق سيراً على قدمي امرأة أمضت شطراً كبيراً من عمرها منهكة وحزينة لأن مصطلحات من مثل فرع وسجن وتحقيق وتعذيب وزيارة وإفراج وعفو وضغوط والتماس ورشوة كانت هواء تتنفسه، وإداماً تلفه بخبز دهشتها، وماء تتجرعه بغصص انتظارها..بل أكثر من ذلك: كان الانتظار عطرها وعلبة زينتها التي تقتصر على لون واحد.. هل تستطيعون أن تتخيلوا للانتظار لوناً، هل نستطيع أن نصطلح على أن للانتظار لوناً ما.. يحق لكم أن تقولوا الانتظارات تختلف.. فمن تنتظر مولوداً ليست كمن تنتظر مفقوداً في سجن تدمر منذ تسع عشرة سنة.