Friday, July 1, 2011

حكايات الوطن الجميل/ 1



ضاعت البلد يا أمي 

 قطعت الموسيقى العسكرية البث الإذاعي الذي كانت أمي تسلّي به عملها المنزلي ولو من بعيد، موسيقى لم تكن تخلو من جاذبية للصغار..
تُلي البلاغ ( رقم واحد) الذي يعلن استيلاء (حزب البعث العربي الاشتراكي) بقوة الجيش على السلطة بعد سبعة عشر عاماً مما يسمى الاستقلال..والاستقلال يعني خروج الفرنسيين من سورية بعد احتلال دام ستاً وعشرين سنة( أطلقت العرب لفظ سنة على سنوات القحط والجفاف)، وسمّت كتبنا المدرسية الاحتلال استعماراً في معظم الأحيان، لكنه مصطلح ينطوي على مغالطة غير مقبولة، إذ بعد سقوط الخلافة سنة 1923 جرى تقاسم بلادنا العربية، ترِكة الرجل المريض( لقب أطلقه الغرب على الخلافة العثمانية أواخر عمرها) وكانت سورية من نصيب فرنسا، فدخلتها سنة 1920، بقيادة الجنرال غورو الذي اشتهرت كثيراً عبارته حين توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي في الجامع الأموي وقال وكأنه يخاطبه: لقد عدنا يا صلاح الدين. وكأنه يعلن عودة الحروب الصليبية. 
لكنهم سمَّوا ذلك انتداباً، بمعنى أنهم آتون للإصلاح والرعاية.. إلى أن تشتدَّ سواعدنا ونشبَّ عن الطوق ونغدوَ أهلاً لاستلام زمام حياتنا، إذ إن النومة الطويلة التي استسلمنا لها في أواخر الحكم  العثماني غيّمت تفكيرنا وأوهنت عظامنا ويبّست مفاصلنا وأرخت عضلاتنا..  
كما ُسمِّي استعماراً وهذا الاشتقاق لغةً( استفعال) يدل على الطلب، يعني أنهم يريدون لنا العمران.. ما يجعله قريباً من الانتداب الذي اختاروه مصطلحاً لاحتلالهم بلادنا.
ولم يعمروا إلا ما ساعدهم على التحرك والسيطرة ..حاولوا نشر ثقافتهم.. حاولوا تشتيت الصف، بمحاولة إحياء النزعات الطائفية تماماً كما هو شأن العراق اليوم، جعلوا سورية دولاً أربعة: حلب ودمشق وجبل العلويين وجبل الدروز.. ومنذ أربع سنوات(1) فقط بدأنا نسمع أن في العراق مثلثاً سنياً وجنوباً شيعياً وشمالاً كردياً..
حيث أمكن التقسيم يقسّمون، على أساس طائفي، على أساس عرقي..قبلي.. المهم هو التقسيم.. وقديماً علمونا في المدارس بكل عنفوان الشعب المتحرر حديثاً من فرنسا" لقد اتبع الاستعمار في البلاد العربية سياسة فرق تسد".
خرج الفرنسيون أو جلَوا إثر ثورات ومقاومة امتدت في كل البلاد..قاومتهم كل فئات الشعب وكل الطوائف( من المؤسف أن أضطر إلى التنويه) واعتبر يومُ السابعَ عشرَ من نَيسان(أبريل) 1946 عيداً للجلاء تحتفل به سورية حتى اليوم.
 من يوم خروجهم لم يثبت على كرسي الحكم في سورية فريق ولا حزب ولا تجمع( قيل كان ثمة أيد  وراء عدم الاستقرار هذا)..مرت تجربة الوحدة مع مصر سريعة عاصفة، إلى أن قام البعثيون بانقلابهم الشهير سنة 1963.
خرج أبي من غرفة النوم مقطباً مغموماً، هذا أبسط ما أستطيع وصفه به، يبدو أنه كان يستمع في غرفته إلى مذياعه العجيب الذي يزيد قليلاً عن حجم كفه، وقد غُلِّف بغلاف جلدي يكشف شاشته وأزراره الضرورية فحسب..حماية له، كان اشتراه حديثاً لا يمسه غيره ولا يفهم عمله غيره، ودون أن ينزل المذياع عن أذنه جعل يردد مخاطباً أمي:
ضاعت البلد.. ضاعت البلد.
كانت أمي تقف مصغية مقطبة هي الأخرى، بجوار المذياع الكبير الذي اختفت سماعته وراء شفرات بيضاء يغطي بعضها بعضا، بينما تظهر على جهته اليمنى شاشة سوداء مستطيلة نقشت عليها باللغة العربية أسماء مدن عربية وأجنبية، من هذه الشاشة التي تضاء كلما شغلنا الجهاز العملاق ذا الصوت الضخم الذي ينشر أصداء محببة في صالة البيت؛ كانت إذاعة القاهرة، بالطبع، هي الأهم بالنسبة لي ولمعظم السوريين الذين خرجوا حديثاً جداً من مشروع الوحدة مع مصر..
قالت أمي وهي تستند إلى الخزانة التي يرسو عليها المذياع قطعةً هامة من أثاث البيت:
-        انقلاب جديد؟
-        بل ضاعت البلد! 

Saturday, June 25, 2011

لا غربة بعد

غمره التعب إلى حدّ الحزن، رأى أنه لن يرفعَ بعدُ يداً ولن يحرّكَ جفناً، استسلم تماماً كما تمنّى منذ زمن، وتنفّس رائحة الخلاص الموجعةَ التي لن يصفَها لأحد، إنه اكتشاف خاصّ جليل، لا يليقُ به سوى الصمت. 
أحسّ بكفّها على جبهته جافّةً وحنوناً..تمنّى أن يرفع كفّه ليضعَها فوق تلك الكفّ، تمنىّ أن يقول لها: كانت لك يدان طريّتان.. من زمان..زمان، قبلَ زمانِ الخيام.
لم يستطعْ..لايريد، عزيمةُ الاستسلام أضحت أقوى؟ كيف؟
يسمع أنينها لا تُعوِل ولا تصرخ، تئنّ كما فعلت يوم هدموا البيت: يومَ دخلت بين غبارِ الحجارة وغبار البارود لتخلّصَ مِزقة من هديته: منديلٍ أحبّ أن يراه يحتضن شيئاً من شعرها الأثيث..
إنه، مغمضَ العينين، يرى كيف ترسم الدمعة الصامتة خطوط وجهها، يرى كيف تُخفي بكفّها ارتجافة شفتيها، كيف تذهب عيناها بعيداً نحو الأفق الذي لا تجد فيه جديداً ينعش منذ ربع قرن، يرى كيف تشمَخ ولا تدعُ أحداً يرثي لها.
إنه، مُشرعَ الأذنين، يسمع حائراً إلحاحها الهامس: قل لا إله إلا الله، قل أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
إنه يقولها، يردّد مفرداتِها بهناءة منذ أدار ظهره للدنيا واختار الصمت.
تريده أن يحرّكَ لسانه بتلك الكلماتِ الشجية الهنيئة التي تصعد وتهبط مع أنفاسه، تدغدغها النبضة بعنفوانها المحبَّب إلى رئته، لترسلَها الرئة بكل أمانة إلى الشرايين، فتنطلق مع دمه الوفيّ وتتغلغل بين الخلايا لترسمَ حوافَّها برقة غامرة، فيحسّ أنه يغتسل ويتطهّر.. يتعطّر لينفلتَ خفيفاً بلاجسد، وتعود الكلمات الخالدات مع الدم الوفيّ لتتدفّقَ مع الأوردة إلى القلب من جديد ، فينبض بها من جديد، ويدفعها محبوراً مبهوراً إلى الشرايين  لترسمَ حدود كل خليّة، وتسمع منها البوح بالحبّ المتجدد .
إنه يردّدها، وهي لا تريد أن تسمع، اليومَ لا تريد أن تسمع! وهي التي اعتادت أن تسمعَ كلماتِ قلبه، وترى كلماتِ عينيه من قبل الكلام.
يسمع الآن نداءها الحازم: يا أولاد !
ثمة همهماتٌ وحوارات..هو ذا كبيرُهم.. مأواه أقربُ وقد أحضر ولديه.. وما أحبَّ وقع قدميهما.
هل سيبكون فرحٌ أم حزن حين يتحقّقون أنه وجد أخيراً أمتاراً يستقرّ فيها لا يزحزحه منها شيء إلا نفخةُ الصور: لا الصواريخُ ولا القرارات ولا المؤتمرات ولا الخوف المخيِّم على الأنفاس واللقيمات؟
 سيسامحونه، سيقولون، وسيسمعهم: " كم اشتهى أن يكونَ له بيت، وأن يكونَ البيت في الوطن، كم رفض البيت دون وطن، قال: البيوت البعيدة تنسيكم الأوطان الحزينة"
*  *  *
وإذا كنتَ منهكاً إلى حدّ الحزن، غريباً إلى حدّ الموت، فهل يحتاج فعل البكاء جهداً كثيراً؟
تحدّرت دمَعات على الصدغين الجافين، تعرّجت في خطوط مألوفة، حرّرت بملوحتها الدافئة اللذيذة نفثةَ سعادة شجية ومنعشة من صدره المهاجر طولَ العمر، واكتشف راضياً هناءة النهاية في معركة استمرّت، إلى درجة أن نتائجها لم تعد تهمّ أحداً .

الرياض 1996/ ظهرت في مجموعتي القصصية "بلاغ ضد المواطنة الرقيقة" الصادرة عن دار العبيكان 2006

Thursday, June 23, 2011

بعض ما لم أقله للمحقق الشاب/ 1

توطئة: فوجئت أواخر كانون الأول ديسمبر1999 في مطار دمشق بأن علي مراجعة الفرع 235..واستمر هذا إلى منتصف 2002 في كل زيارة زرتها لدمشق.. حتى انقطعت.
*****
   لعل وجودَه خلف المكتب، ووجودي على كرسيّ ليس تُجاهَه تماماً، لِنقلْ أني كنت أقربَ إلى يمينه.. وقد تكون هذه الزاوية من الرؤية مريحة له كما هي لأغلب الناس. لعل هذا منحَه شعوراً بالسيطرة والتحكم، إضافة إلى ما تمنحه إياه طبيعةُ العلاقة بيننا: مواطنة مطلوب منها مراجعة الفرع خلال يومين من وصولها إلى بلدها، ومحقق في فرع أطلق عليه اسم فرع الإرهاب بعد إطلاق موضة محاربة الإرهاب من قبل جورج بوش، بل لعل الأمر بدأ من أيام بل كلينتون الذي يعتبر من أو أذكى رؤساء أمريكا، من عجب أو أسف( وعلام الأسف) أنه احتاج هذا الذكاء أكثر ما احتاجه في دفع تهمة الكذب عن نفسه تحت القسم، ربما يجب أن أذكر أنه لم يكن، في المرحلة الثانية من التحقيق( مع رئيس أقوى دولة في العالم) يدفع عن نفسه تهمة الزنى في البيت الأبيض، بل يدفع عن نفسه تهمة الكذب، وقد احترم المؤمنون والمتمسكون بالأخلاق من كل الدنيا، دون شك، كثيراً؛ أن الدستور الأمريكي يجعل الكذب جريمة أكبر من الزنى، تماماً كما هي الحال لدينا معاشر المسلمين، فقد يزني المؤمن وقد يسرق لكنه لا يكذب، كما صحَّ في الحديث الشريف.
أقول إنه المحقق في الفرع235، المجاور تماماً لفرع الجمارك، والأوادم( جمع آدميّ/ طيب عاقل) الجهلة أمثالي، كانوا منذ ربع قرن يرضون من أسماء الفروع المرعبة( أعني الفروع) بعناوينها التي تنبع من مواقع يعرفونها فتبعد عنهم، ولو إلى زمن، الإيحاء المفزع لمصطلح المخابرات: فرع التحقيق العسكري سموه فرع الجمارك لأنه قريب من إدارة الجمارك في أول حيّ المزة الذي كان شهيراً يوماً بحقول الصبار والمياه الغزيرة قبل أن تغزوه الأبنية الأشبه بالعلب والتي تصلح لتكديس عدد كبير من البشر لحوماً وعظاماً.
 فرع الخطيب، في جادة الخطيب المتفرعة عن شارع بغداد، شارع بغداد شقته فرنسا لتتجنب شارع الملك فيصل الذي كان يقطعه المتظاهرون والثوار بالمتاريس.
   لكن الناس(أتحدث هنا عن ناس ليست لهم علاقة بعد بفروع التحقيق، لا يهمهم أبداً أن يعرفوا كم فرعاً للتحقيق في دمشق العاصمة وحدها، وما اختصاص كل فرع، ومن يرأسه أو يديره..لاحظ أن كل الأسئلة تتجنب( كيف).  
فرع العدوي في حيّ العدوي الذي كان يوماً جديداً، والذي شب فجأة ساحقاً تحت إسمنته وحديده وعبث أطفاله الغاضبين مساحة  خضراء تسمى الديوانية. من الغريب، ولعله ليس غريباً، من المؤسف ولعله ليس مؤسفاً، من المحزن ولعله ليس محزناً أنه لايبعد عن فرع الخطيب أكثر من عشر دقائق سيراً على قدمي امرأة أمضت شطراً كبيراً من عمرها منهكة وحزينة لأن مصطلحات من مثل فرع وسجن وتحقيق وتعذيب وزيارة وإفراج وعفو وضغوط والتماس ورشوة كانت هواء تتنفسه، وإداماً تلفه بخبز دهشتها، وماء تتجرعه بغصص انتظارها..بل أكثر من ذلك: كان الانتظار عطرها وعلبة زينتها التي تقتصر على لون واحد.. هل تستطيعون أن تتخيلوا للانتظار لوناً، هل نستطيع أن نصطلح على أن للانتظار لوناً ما.. يحق لكم أن تقولوا الانتظارات تختلف.. فمن تنتظر مولوداً ليست كمن تنتظر مفقوداً في سجن تدمر منذ تسع عشرة سنة.